فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد}
أقسم سبحانه بالبلد الحرام أعني مكة فإنه المراد بالمشار إليه بالإجماع وما عطف عليه على الإنسان خلق مغموراً في مكابدة المشاق ومعاناة الشدائد وقوله تعالى: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} على ما اختاره في (الكشاف) اعتراض بين القسم وجوابه وفيه تحقيق مضمونه بذكر بعض المكابدة على نهج براعة الاستهلال وإدماج لسوء صنيع المشركين ليصرح بذمهم على أن الحل بمعنى المستحل بزنة المفعول الذي لا يحترم فكأنه قيل ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمته يستحل بهذا البلد الحرام ولا يحترم كما يستحل الصيد في غير الحرم عن شرحبيل بن سعد يحرمون أن يقتلوا به صيداً ويعضدوا شجره ويستحلون إخراجك وقتلك وفي تأكيد كون الإنسان في كبد بالقسم تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث على أن يطأ من نفسه الكريمة على احتماله فإن ذلك قدر محتوم وجوز أن يكون الحل بمعنى الحلال ضد الحرام قال ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير وغيره وأنت يا محمد يحل لك أن تقاتل به وأما غيرك فلا وقال مجاهد أحله لله تعالى له عليه الصلاة والسلام ساعة من نهار وقال سبحانه له ماصنعت فيه من شيء فأنت في حل لا تؤاخذ به وروى نحو ذلك عن أبي صالح وقتادة وعطية وابن زيد والحسن والضحاك ولفظه يقول سبحانه أنت حل بالحرم فاقتل إن شئت أودع وذلك يوم الفتح وقد قتل صلى الله عليه وسلم يومئذ عبد الله بن خطل وهو الذي كانت قريش تسميه ذا القلبين قدمه أبو برزة سعد بن حرب الأسلمي فضرب بأمره صلى الله عليه وسلم عنقه وهو متعلق بأستاذ الكعبة وكان قد أظهر الإسلام وكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من الوحي فارتد وشنع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ما يمليه من القرآن منه عليه الصلاة والسلام لا من الله تعالى وقتل غيره أيضاً كما هو مذكور في كتب السير ثم قال عليه الصلاة والسلام «إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لا تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار فلا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد فقال العباد يا رسول الله إلا الأذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا فقال عليه الصلاة والسلام إلا الأذخر» وتقديم المسند إليه على هذا للاختصاص كما أشير إليه في خبر ابن عباس وحل على معنى الاستقبال بناء على أن نزول السورة قبل الهجرة التي هي قبل الفتح بكثير وفي خبر رواه عبد بن حميد عن ابن جبير ما هو ظاهر في أن الآية نزلت بعد أن ضرب أبو برزة عنق ابن خطل يوم الفتح فإن صح لا يكون في معنى الاستقبال لكن الجمهور على الأول وفي تعظيم المقسم به وتوكيد المقسم عليه بالاقسام توكيد لما سيق له الكلام وهو على ما ذكر أن عاقبة الاحتمال والمكابدة إلى الفتح والظفر والغرض تسليته صلى الله عليه وسلم ثم ترشيحها بالتصريح بما سيكون من الغلبة وتعظيم البلد يدل على تعظيم من أهل له وفي الاقسام به توطئة للتسلية لأن تعظيم البلد تعظيم للساكن فيه وجوز أن يكون الحل على نحو ما ذكر في هذا الوجه لكن المعنى {وأنت حل بهذا البلد} مما يقترفه أهله من المآثم متحرج بريء منها والمعنى في الأقسام بالبلد تعظيمه وفي الاعتراض ترشيح التعظيم والتشريف بكون مثله صلى الله عليه وسلم في جلالة القدر ومنصب النبوة ساكناً فيه مبايناً لما عليه الغاغة والهمج والفائدة فيه تأكيد المقسم عليه بأنهم من أهل الطبع فلا ينفعهم شرف مكان والمتمكن فيه كأنه قيل أقسم بهذا البلد الطيب بنفسه وبمن سكن فيه أن أهلهل لفي مرض قلب وشك لا يقادر قدره وقيل الحل صفة أو مصدر بمعنى الحال يقال حل أي نزل يحل حلاً وحلولاً ويقال أيضاً هو حل بموضع كذا كما يقال حال به والقول بأن الصفة من الحلول حال لا حل ومصدر حل بمعنى نزل الحلول والحل بفتح الحاء والحلل فقط ناشيء من قلة التتبع والاعتراض لتشريفه صلى الله عليه وسلم بجعل حلوله عليه الصلاة والسلام مناطاً لإعظام البلد بالاقسام به وجعل بعض الأجلة الجملة على هذا الوجه حالاً من هذا البلد وكذا جعلها بعضهم حالية على الوجهين قبل إلا أن الحال على ثانيهما مقارنة وعلى أولهما مقدرة.
أو مقارنة إن قيل أن النزول ساعة احلت مكة وجعلها ابن عطية حالاً على الوجه الأول أيضاً أعني كون الحل بمعنى المستحل لكن قيده بكون لا نافية غير زائدة فتأمل وأياً ما كان ففي الإشارة وإقامة الظاهر مقام الضمير من تعظيم البلد ما فيهما.
{وَوَالِدٍ} عطف على {هذا البلد} [البلد: 1] المقسم به وكذا قوله تعالى: {وَمَا ولد} والمراد بالأول آدم عليه السلام وبالثاني جميع ولده على ما أخرج الحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عباس ورواه جماعة أيضاً عن مجاهد وقتادة وابن جبير وقيل المراد آدم عليه السلام والصالحون من ذريته وقيل نوح عليه السلام وذريته وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عمران أنهما إبراهيم عليه السلام وجميع ولده وقيل إبراهيم عليه السلام وولده إسماعيل عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم ادعى أنه ينبئ عن ذلك المعطوف عليه فإنه حرم ابراهيم ومنشأ اسمعيل ومسقط رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم أجمعين وقال الطبري والماوردي يحتمل أن يكون الوالد النبي صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره وما ولد أمته لقوله عليه الصلاة والسلام «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد» ولقراءة عبدالله {وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم} [الأحزاب: 6] وفي القسم بذلك مبالغة في شرفه عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى وقيل المراد كل والد وولده من العقلاء وغيرهم ونسب ذلك لابن عباس وأخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق عكرمة عنه أنه قال: {الصمد لَمْ يَلِدْ} وما ولد العاقر الذي لا يلد من الرجال والنساء ونسب إلى ابن جبير أيضاً فما عليه نافية فحيتاج إلى تقدير موصول يصح به المعنى الذي أريد كأنه قيل ووالد والذي ما ورد وإضمار الموصول في مثله لا يجوز عند البصريين ومع هذا هو خلاف الظاهر ولعل ظاهر اللفظ عدم التعيين في المعطوفين وظاهر العطف على هذا البلد إرادة من له دخل فيه وشهرة بنسبة البلد إليه والمشهور في ذلك ابراهيم واسمعيل عليهما السلام وتنكير والد على ما اختاره غير واحد للتعظيم وإيثار ما على من بناء على أن المراد بما ولد العاقل لإرادة الوصف فتفيد التعظيم في مقام المدح وأنه مما لا يكتنه كنهه لشدة إبهامها ولذا أفادت التعجب أو التعجيب وإن لم تكن استفهامية كما في قوله تعالى: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36] أي أي مولود عظيم الشأن وضعته والتعظيم والتعجيب على تقدير أن يراد بما ولد ذرية آدم عليه السلام مثلاً قيل باعتبار التغليب وقيل باعتبار الكثرة وما خص به الإنسان من خواص البشر كالعقل وحسن الصورة ومن تأمل في شؤون الإنسان من حيث هو إنسان يعلم أنه من تلك الحيثية معظم يتعجب منه.
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في كبد} أي في تعب ومشكقة فإنه لا يزال يقاسي فنون الشداد من وقت نفخ لروح إلى حين نزعها وما وراءه يقال كبد الرجل كبداً فهو أكبد إذا وجعته كبده وانفتخت فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة ومنه اشتقت المكابدة لمقاساة الشداد كما قيل كبته بمعنى أهلكه وأصله كبده إذا أصاب كبده قال لبيد يرثي أخاه:
يا عين هل بكيت أربد إذ ** قمنا وقام الخضوم في كبد

أي في شدة الأمر وصعوبة الخطب وعن ابن عمر يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء وعن ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبي صالح والضحاك ومجاهد أنهم قالوا أي خلقناه منتصب القامة واقفاً ولم نجعله منكباً على وجهه وقال ابن كيسان أي منتصباً رأسه في بطن أمه فإذا أذن له في الخروج قلب رأسه إلى قدمي أمه وهذه الأقوال كلها ضعيفة لا يعول عليها بخلاف الأول وقد رواه الحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس وروى عن غير واحد من السلف نعم جوز أن يكون المعنى لقد خلفناه في مرض شاق وهو مرض القلب وفساد الباطن وهذا بناء على الوجه الثالث من الأوجه الأربعة السابقة في قوله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} [البلد: 1، 2] المراد بالإنسان عليه الذين علم الله تعالى منهم حين خلقهم أنهم لا يؤمنون ولا يعملون الصالحات والظاهر أن المراد على ما عداه جنس الإنسان مطلقاً وقال ابن زيد المراد بالإنسان آدم عليه السلام وبالكبد السماء وشاع في وسط السماء كالكبيداء والكبيداة والكبداء والكبد بفتح فسكون وليس بشيء أصلاً والضمير في قوله تعالى: {أيحسب} على ما عدا ذلك راجع إلى ما دل عليه السياق ممن يكابد منه صلى الله عليه وسلم ما يكابد من كفار قريش وينتهك حرمة البيت وحرمته عليه الصلاة والسلام وعليه للإنسان والتهديد مصروف لمن يستحقه وقيل على إرادة البعض هو أبو الأشد أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد القوة مغتراً بقوته وكان يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه ويقول من أزالني عنه فله كذا فيجذبه عشرة فينقطع قطعاً ويبقى موضع قدميه وقيل عمرو بن عبدود وقيل الوليد بن المغيرة وقيل أبو جعل بن هشام وقيل الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ويجوز أن يكون كل من هؤلاء سبب النزول فلا تغفل وجعل عصام الدين الاستفهام للتعجيب على معنى أيظن {أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي على الانتقام منه ومكافأته بما هو عليه {أحد} مع أنه لا يتخلص من المكابدة ومقاساة الشدائد وإن مخففة من الثقيلة ولعل في ذلك إدماج عدم الايمان بالقيامة.
{يَقول أَهْلَكْتُ مَالاً لبدا} أي كثيراً من تلبد الشيء إذا اجتمع أي يقول ذلك وقت الاغترار فخراً ومباهاة وتعظماً على المؤمنين وأراد بذلك ما أنفقه رياء وسمعة وعبر عن الانفاق بالإهلاك إظهاراً لعدم الاكتراث وأنه لم يفعل ذلك رجاء نفه فكأنه جعل المال الكثيرة ضائعاً وقيل يقول ذلك إظهاراً لشدة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم مريداً بالمال ما أنفقه في معاداته عليه الصلاة والسلام وقيل يقول ذلك إيذاء له عليه الصلاة والسلام فعن مقاتل أن الحرث بن نوفل كان إذا أذنب استفتى الرسول صلى الله عليه وسلم فيأمره عليه الصلاة والسلام بالكفارة فقال لقد أهلكت مالاً لبدا في الكفارات والتبعات منذ أطعت محمداً صلى الله عليه وسلم وقيل المراد ما تقدم أولاً إلا أن هذا القول وقت الانتقام منه وذلك يوم القيامة والتعبير عن الانفاق بالإهلاك لما أنه لم ينفعه يومئذ وقرأ أبو جعفر لبدا بشد الباء وعنه وعن زيد بن علي لبدا بسكون الباء وقرأ مجاهد وابن أبي الزنا لبدا بضم اللام والباء.
{أيحسب أَن لَّمْ يَرَهُ أحد} أي حين كان ينفق ما ينفق رئاء الناس أو حرصاً على معاداته صلى الله عليه وسلم يعني أن الله تعالى كان يراه وكان سبحانه عليه رقيباً فهو عز وجل يسأله عنه ويجازيه عليه وفي الحديث: «لا تزل قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه وعن ماله مم جمعه وفيم أنفقه وعن علمه م إذا عمل به» وجوز أن يكون المعنى أن لم يجده أحد على المراد بالرؤية الوجدان اللازم له ولم بمعنى لن وعبر بها لتحقق الوقوع يعني أنه تعالى يجده يوم القيامة فيحاسبه على ذلك وعن الكلبي أن هذا القائل كان كاذبا لم ينفق شيئاً فقال تعالى: أيظن أن الله تعالى ما رأى ذلك منه فعل أو لم يفعل أنفق أو لم ينفق بل رآه عز وجل وعلم منه خلاف ما قال وقرر سبحانه القدرة على مجازاته ومحاسبته والإطلاع على حاله بقوله جل وعلا: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عينين (8)}. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

90 سورة البلد:
نزولها: مكية بإجماع.
نزلت بعد سورة (ق).
عدد آياتها: عشرون آية.
عدد كلماتها: اثنتان وثمانون كلمة.
عدد حروفها: ثلاثمائة وواحد وخمسون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
الإنسان الذي ابتلاه اللّه فأكرمه ونعمه، فلم يحمد اللّه، ولم يشكر له فضله وإحسانه، والإنسان الذي قدر اللّه عليه رزقه، فساء ظنّه باللّه، وغيّر موقفه منه- هذا الإنسان- في حاليه اللذين عرضتهما سورة (الفجر)- يرى في أوضح صورة في إنسان هذا البلد، وهو مكة، البلد الحرام الذي رفع اللّه قدره، وجعله حرما آمنا، يجبى إليه ثمرات كل شيء، وجعله موضعا لأول بيت يعبد فيه على هذه الأرض- هذا الإنسان الذي يعيش في هذا البلد الأمين، كان جديرا به أن يكون أعرف الناس بربه، وأرضاهم لحكمه، ولكنه لم يرع حرمة هذا البلد، فلم يكرم اليتيم، ولم يحض على طعام المسكين، وأكل التراث أكلا لما، وأحب المال حبا جمّا، أعماه عن طريق الحق، وأضله عن سبيل الرشاد.. فهل هو بعد هذه النّذر عائد إلى ربه، داخل في عباده؟ ذلك ما ستكشف عنه الأيام منه، مع دعوة الحق التي يحملها رسول اللّه إليه.. فالمناسبة بين السورتين قريبة دانية.
التفسير:
{لا أقسم بهذا البلد...} ما تأويله؟ قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهذَا البلد} قلنا- في غير موضع- إن القسم المنفي فيما ورد في القرآن الكريم، هو تعريض بالقسم، وتلويح به، دون إبقاعه، إذ كان الأمر الواقع في حيزّ القسم، أوضح وأظهر من أن يقسم عليه، توكيدا، أو تقريرا.. ونفى القسم هنا هو لعلة في المقسم به، لا بالمقسم عليه، كما سنرى.. والبلد، هو البلد الحرام، مكة المكرمة، وقد أقسم اللّه به في غير هذا الموضع، في قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا البلد الْأَمِينِ}.
وقوله تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا البلد} الواو هنا للحال، والجملة حال من فاعل لا أقسم، وهو اللّه سبحانه وتعالى.. أي لا أقسم بهذا البلد في تلك الحال التي أنت حلّ به، فالضمير {أنت} خطاب للنبى صلوات اللّه وسلامه عليه. والحلّ: الحلال، المستباح..
والمراد بالحلّ، هنا هو النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- وأنّ المشركين لم يرعوا فيه حرمة القرابة، ولا حرمة البلد الحرام الذي يأوى إليه، بل أباحوا سبّه وشتمه، وأطلقوا ألسنتهم بكل قالة سوء فيه، بل وتجاوزوا هذا إلى التعرض له بالأذى المادي، حتى لكادوا يرجمونه..
وهنا ندرك بعض السر في نفى القسم بالبلد الحرام.. لقد جعله المشركون بلدا غير حرام، وغيّروا صفته التي له، حتى لقد صار هذا البلد غير أهل لأن يقسم به من اللّه سبحانه، لأن القسم من اللّه هو تشريف وتكريم لما يقسم به سبحانه، وإن اللّه سبحانه لن يقسم بهذا البلد ما دام النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- لا ترعى له حرمة في البلد الحرام.. فإن حرمة هذا البلد من حرمة النبي، وأنه إنما أقيم من أول وجود للمجتمع الإنسانى، ليستقبل دين اللّه وقد كمل، وليكون مطلعا لخاتم المرسلين وقد ظهر.
وفى نفى القسم بالبلد الحرام، تجريم للمشركين، وتشنيع على جنايتهم الغليظة التي اقترفوها في حق رسول اللّه، وفى حق البلد الأمين، وأن تلك الجناية الشنعاء قد امتدت آثارها إلى البلد الحرام، فسلبته حرمته، وأن اللّه سبحانه وتعالى رافع عنه هذه الحرمة، حتى ينتقم لنبيه الكريم من هؤلاء المجرمين، ويردّ إليه اعتباره من التوقير والتكريم في رحاب البلد الحرام.
وعندئذ تعود للبلد حرمته!! وإنا لنذهب إلى أبعد من هذا، فنقول إن رفع الحرمة عن البلد الحرام قد ظلّ معلقا هكذا إلى أن خرج منه النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- مهاجرا ثم عاد إليه فاتحا في السنة الثامنة من الهجرة، وأنه قد أبيح له من هذا البلد يوم الفتح، ما كانحراما، فأمر صلوات اللّه وسلامه عليه بقتل بعض المشركين، وهم متعلقون بأستار الكعبة، يومئذ، وهم ابن خطل، وميّس بن صبابة، وغير هم وفى هذا يقول الرسول الكريم عن هذا البلد يوم الفتح: «إن اللّه حرم مكة، يوم خلق السماوات والأرض، فهى حرام إلى أن تقوم الساعة، فلم تحل لأحد قبلى، ولا تحل لأحد من بعدي، ولم تحل لى إلا ساعة من نهار» وإنه ما إن يقرغ النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- من حساب هؤلاء المتاكيد الذين أمر بقتلهم في المسجد الحرام، بالبلد الحرام، حتى تعود للبلد الحرام حرمته ويطّهر من الشرك والرجس، ومن الأصنام وعبّاد الأصنام.
هذا، ولا يفهم مما قلناه: من أن البلد الحرام، قد رفعت عنه حرمته منذ أحل المشركون من النبي ما أحلّوا- لا يفهم من هذا، أن ذلك بالذي ينقص من قدر هذا البلد، أو يجور على شيء من مكانته، وعلو مقامه.. فهو هو على ما شرفه اللّه به، ورفع قدره، ولكن رفع الحرمة عن هذا البلد، هو عقاب لهؤلاء المشركين الذين آواهم هذا البلد، وجعله حرما لهم.. فلما استباحوا حرمته، باستباحة حرمة النبي، عرّاهم اللّه من هذه الخلية الكريمة التي خلعها عليهم البلد الحرام..! ولهذا أقسم اللّه سبحانه بهذا البلد الذي أبيحت حرمته من المشركين، ووصفه بالبلد الأمين في قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا البلد الْأَمِينِ}.
قوله تعالى: {وَوالِدٍ وَما ولد}- معطوف على قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهذَا البلد}..
والمراد بالوالد وما ولد- واللّه أعلم- هو هذا التوالد الذي يقع بين الناس.. فكل والد، هو مولود، وكل مولود، سيكون والدا، وبهذا، يتصل النسل، وتكثرا المخلوقات، وتعمر الأرض.. وفى عملية التوالد، تتجلى قدرة الخالق جل وعلا، وعلى مسرح هذه العملية مراد فسيح للدراسة، والتأمل، والبحث، وجامعة علم غرير للعلماء والدارسين، ومعلم من معالم الهدى واليقين للمؤمنين والمتوسمين..
وفى نفس القسم بالوالد، وما ولد (و هو الإنسان)- إشارة إلى أن الإنسان الذي كرمه اللّه سبحانه وتعالى، ورفع قدره على كثير من المخلوقات، كما رفع قدر هذا البلد الأمين على سائر البلدان- هذا الإنسان، قد خلع هذا الثوب الكريم الذي ألبسه اللّه إياه، وتخّلى عن المعاني الإنسانية الشريفة التي أودعها الخالق جل وعلا فيه، فأحلّ حرمات اللّه، واعتدى على حدوده، وبهذا لم يصبح أهلا لأن يقسم اللّه به، وأن يعرضه في معرض التشريف والتكريم.
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (4- 6: التين) ومن هنا ندرك بعض السر في نفى القسم بالوالد وما ولد.. فإن اللّه سبحانه أقسم بكثير من مخلوقاته، من سماء وأرض، وما في السماء، من شمس وقمر، ونجوم، وما في الأرض من تين وزيتون، وخيل عادية، ورياح عاصفة، وغير هذا، مما أقسم اللّه سبحانه وتعالى به، من عوالم الجماد، والنبات، والحيوان.
فهذه المخلوقات قائمة على ما خلقها اللّه سبحانه وتعالى عليه، لم تخرج عن طبيعتها، ولم تحد عن طريقها المرسوم لها، على خلاف الإنسان، الذي غير وبدل، وانحرف عن سواء السبيل..
وأما حين أقسم اللّه سبحانه وتعالى بالإنسان، فإنما أقسم به في فطرته التي أودعها اللّه سبحانه فيه، تلك الفطرة التي جعلها اللّه تعالى أمانة بين يدى الإنسان، فلم يرعها، ولم يحفظها. وفى هذا يقول سبحانه: {وَنَفْسٍ وَما سواها}.. فهذه النفس، هي الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها {فَأَلْهَمَها فُجُورَها وتقواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زكاها وَقَدْ خابَ مَنْ دساها}..
والصورة الكاملة للإنسانية، التي احتفظت بهذه الفطرة، وزكتها التزكية المطلوبة لها، هو رسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- وقد ألبسه اللّه سبحانه الشرف كله، وتوجه بتاج العظمة على المخلوقات جميعها، إذ أقسم به الحق جل وعلا، مضافا إلى ذاته الكريمة، فقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ} (92- 93: الحجر)..
وقد وزنه اللّه سبحانه وتعالى بهذا القسم، فرجح ميزانه ميزان السموات والأرض، إذ أقسم بهما الحق جل وعلا مضافين إلى ذاته العلية في قوله جل شأنه: {فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} (23: الذاريات)..
ولكن شتان بين قسم اللّه سبحانه وتعالى بذاته مضيقا إليها الرسول الكريم، في مقام الخطاب، وبين قسمه سبحانه بالسماء والأرض، مضافتين إلى ذاته- جل وعلا- في مقام الغيبة..! فصلوات اللّه وسلامه عليك يا رسول اللّه، صلاة تنال بها شفاعتك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم.
قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كبد}..
هو جواب للقسم المطوىّ، في كيان القسم المنفي..
والإنسان هو ثمرة من ثمرات التوالد بين الأحياء، سواء في هذا، الوالد، والولد..
والكبد: المعاناة والشدة..
والظرف: (فى) هو المحتوى الذي يضم الإنسان، وما يلاقى فيه من كبد..
فحياة الإنسان- كل إنسان- في هذه الدنيا، هي شدائد، ومعاناة.
فما يسلم إنسان أبدا من هموم الحياة وآلامها، النفسية، أو الجسدية، فكم يفقد الإنسان من صديق وحبيب؟ وكم يتداعى على جسده من أمراض وعلل؟ وكم؟
وكم؟ مما يطرق الناس من أحداث على مر الأيام، وكر الليالى؟ فالشباب يذبل ويولّى، والقوة تتبدد وتصبح وهنا وضعفا، وهذا الجسد الذي ملأ الدنيا حياة وحركة سيعصف به الموت يوما، ويلقى به في باطن الأرض، جثة هامدة متعفنة، لا تلبث أن تصير ترابا!.
فالإنسان وحده من بين المخلوقات- فيما نعلم- هو الذي تستبدّ به هذه المخاوف، وتطرقه هذه التصورات، على خلاف سائرا لأحياء التي تقطع مسيرتها في الحياة، في غير قلق أو إزعاج من المستقبل الذي ينتظرها.. إنها لا تنظر إليه، ولا تتصوره، ولا تعيش فيه قبل أن يصبح واقعا..
أما الإنسان، فإنه يعيش في المستقبل أكثر مما يعيش في الواقع، حتى إنه ليرى بعين الغيب في يوم مولده، ما هو مقبل عليه من آلام ومكابدات في مستقبل حياته.. يقول ابن الرومي:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ** يكون بكاء الطفل ساعة يولد

وإلّا فما يبكيه منها، وإنها ** لأرحب مما كان فيه وأرغد

هذا هو الإنسان، وتلك هي مسيرته في الحياة، فلا يفترنّ جاهل بقوته، ولا يركننّ مغرور إلى ما بين يديه من مال وسلطان.. فكل زائل وقبض الريح!..
قوله تعالى: {أيحسب أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحد}؟
هو إلفات لهذا المغرور بقوته، المعتزّ بسلطانه وجاهه، المفتون بنفسه، المتشامخ بذاته، حتى ليحسب أن أحدا لن يقدر عليه، ولن يسلبه شيئا مما معه..
إنه أضعف من أن يثبت لنخسة من نخسات الحياة، كما يقول سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} (54: الروم) ويقول سبحانه: {وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً} (28: النساء) وإن بعوضة تلسعه لتحرق جسده بالحمى، وإن جرثومة تتدسس إلى كيانه لتهدّ بنيانه، وتقوض أركانه!! ثم ما قوة هذا الإنسان؟ أهو أقوى من خالقه الذي خلقه من نطفة ثم سواه رجلا؟
فما أضعف الإنسان، وما أخف وزنه، إذا كان معياره قائما مع هذا الجسد، دون أن يكون لروحه حساب، أو لنفسه اعتبار! وقوله تعالى: {يَقول أَهْلَكْتُ مالًا لبدا} هكذا يقول الإنسان مباهيا مفاخرا بما أنفق من مال..
واللبد: الكثير، الذي جمع بعضه إلى بعض، فكان أكداسا مكدسة.. وفيم أهلك هذا السفيه المغرور هذا المال الكثير؟ أفي ابتناء محمدة، أو اكتساب مكرمة؟ أو إغاثة ملهوف؟ أو إطعام جائع؟ كلّا.. إنه لا يعرف وجها من هذه الوجوه ولا تنضح يده لها بدرهم، من هذا المال الكثير الذي أهلكه.. إنه أهلكه في مباذله، وفى استرضاء شهواته، وإشباع نزواته.. ولهذا فهو مال هالك، ومهلك لمن أنفقه وهذا بعض السرّ في قوله تعالى: {أهلكت} الذي يدل على أن هذا المال ذهب في طريق الضياع والفساد.
وقوله تعالى: {أيحسب أَنْ لَمْ يَرَهُ أحد} أي أيحسب هذا السفيه المفتون، أن عين اللّه لا تراه، ولا تكشف عن هذه الوجوه المنكرة التي يهلك فيها هذا المال اللبد؟ وكلّا، فإنه محاسب على هذا المال الذي أهلكه في وجوه الضلال، والبغي والعدوان.. اهـ.